الأمر الأول: بأسماء الله تبارك وتعالى وصفاته، يقول الله تعالى: ((
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف:180] فندعو الله بأسمائه فنقول: يا غفار اغفر لي، يا رحيم يا رحمن ارحمني، يا كريم ارزقني، أو تفضل علي.
فأيُّ اسم من أسماء الله تدعو الله تعالى به، وتتوسل إليه، وتسأل الله به، فهو خير وأفضل أنواع الدعاء.
فندعو الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وندعوه ونتضرع ونتوسل إليه، بتحقيقنا التوحيد والإيمان.
الأمر الثاني: أن نتوسل إلى الله بأعمالنا الصالحة، فندعو الله بأعمالنا التي عملناها خالصة لوجه الله، والتي تقربنا بها إليه، وأعظم وأفضل هذه الأعمال هو الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فلما سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله}.
والإيمان -الذي هو التوحيد- نتوسل به إلى الله: ((
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)) [آل عمران:193] فأولو الألباب الذين أثنى الله تعالى عليهم وذكر أنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم -وهذا هو غاية الذكر وغاية العبادة- يتوسلون إلى الله بالإيمان، ولم يتوسلوا إليه بذات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل سألوه بالإيمان به.
ومن أعظم الأدلة على ذلك، وأوضحها أيضاً، {
قصة الثلاثة الذين آواهم المطر إلى كهف فأطبقت عليهم الصخرة} فتوسلوا إلى الله تبارك وتعالى بأعمالهم الصالحة الخالصة.
أفلم يكن عندهم أنبياء حتى يتوسلوا بهم؟
إن هؤلاء مؤمنون لا شك في ذلك، وجاءهم الإيمان عن طريق الرسل والأنبياء الذين دلوهم على الإيمان، لأنهم أناس عاديون، ليسوا برسل أو أنبياء، ولا مشهود لهم بالصلاح والتقوى، فهم أناس من عامة الناس.
لكن الله أراد أن يبتليهم بهذه الصخرة، فلم يتوسلوا بالذوات وبالمخلوقين، ولكنهم توسلوا إلى الله، وقبل الله توسلهم بأعمالهم الصالحة التي عملوها خالصة لوجه الله.
فتوسل الأول إلى الله ببر الوالدين، وبر الوالدين نعم العمل الصالح: ((
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) [الإسراء:23] فجعل الله تبارك وتعالى أعظم حق بعد حقه تعالى -وهو توحيده- هو حق الوالدين, فكذلك أعظم ذنب بعد الشرك بالله هو عقوق الوالدين، وعندما سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
أيُّ الذنب أعظم؟ قال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين} فهذا أعظم حق يراعى، وإن أهدر فهو أعظم حق أهدر بعد حق الله.
فتوسل إلى الله ببر الوالدين، وتضرع إلى الله: {
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك وخالصاً لوجهك الكريم فافرج عنا ما نحن فيه، ففرجت قليلاً }
وتوسل الثاني وتضرع إلى الله بالعفة عن الزنا، لأنه كان له ابنة عم ذات منصب وجمال، وكان يريدها على الفاحشة، ولكنها امتنعت منه، حتى جاءت واحتاجت إليه، فأعطاها الدنانير، وقعد منها مقعد الرجل من أهله فذكرته بالله، فاتقى الله، وتركها لوجه الله.
وهذا العمل لا يضيع عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فذرة من العمل لا تضيع، إن كان خيراً وجده.
وإن كان شراً وجده، فهذه العفة عما حرم الله، وهذا العزوف عما نهى الله تبارك وتعالى عنه، وحجز النفس عن الشهوات المحرمة، نفعه في وقت هو أحوج ما يكون إلى المنفعة، فسأل الله: {
يا رب! إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم؛ فافرج عنا ما نحن فيه، ففرجت قليلاً } أكثر من الأول، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وهذا الحديث عظيم، ويحتاج إلى درس بل دروس بالنسبة لما فيه من الآيات والعبر: بالنسبة لحقّ الوالدين، ثم بالنسبة لترك ما حرم الله تبارك وتعالى، وأثر ذلك في الخير والنعمة والبركة. ثم يأتي النوع الثالث.
فالرجل الثالث توسل إلى الله بأداء حقوق الناس.
فإيفاء الناس حقهم، ورحمة الخلق والإحسان إلى خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الأعمال الصالحة العظيمة.
وقد كان عند هذا الرجل أجير، فذهب ولم يأخذ أجرته، فنمى ماله حتى أصبح شعاباً من الإبل والبقر والغنم، فلما جاء صاحب المال، يريد أن يأخذ ماله، قال له: هذا مالك، فقال: أتهزأ بي يا عبد الله -فهو يعرف أنه اشتغل عنده مدة من الزمن، وأن ماله عنده بضع دنانير، وهذه شعاب من بهيمة الأنعام، وهي أفضل الأموال وأزكاها- فقال له: لا. ولكن هذا مالك، وحقك. فهو فعل ذلك لوجه الله.
فيا من تأكلون حقوق العمال الأجراء والعباد! انظروا كيف نفعه هذا في وقت هو أحوج ما يكون إليه، وذلك لما وفاه أجره وأعطاه حقه, وبالإحسان إليه زيادة عن حقه لوجه الله، وما كان ذلك الرجل يريده ولا يطلبه أو يتوقعه، قال تعالى: ((
هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ )) [الرحمن:60] فمن أحسن إلى خلق الله ابتغاء وجه الله أحسن الله تبارك وتعالى إليه في الدنيا والآخرة.
ففرجت عنهم الصخرة وخرجوا، وهذا من فضل الله ونعمته تبارك وتعالى عليهم.
فالشاهد أنهم دعوا الله وتضرعوا وتوسلوا إليه بأعمال صالحة فعلوها.
فإذا أردنا أن نبتغي إلى الله الوسيلة، فالواجب علينا أن نعمل أعمالاً صالحة خالصةً لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فإذا جاء وقت الشدة والضيق والكرب في الدنيا أو في الآخرة، نضرع إلى الله بهذه الأعمال الصالحة، فإن قبلها الله نفعنا ذلك عنده.
فإذا أردنا أن يكون عندنا ذخائر وعدة وسلاح نواجه به الأزمات والمخاطر والهموم والمشاكل -وهذه لا يخلو منها أحد- فلنعد عملاً خالصاً لوجه الله، ولو أن تذكر الله تعالى وحدك ولا يعلم بك إلا الله.
ادع لأخيك بظهر الغيب وهو لا يعلم ولا يعرفك أو يلقك أو يرك.
أصلح بين الناس لوجه الله تبارك وتعالى.
أو اعمل أي معروف، ففي كل ذات كبد رطبة أجر، حتى ولو كان إلى البهائم، أحسن إليها وهي لا تشكر، ولا تمنه عليها.
وسوف تجد أن ذلك ينفعك بإذن الله، فترفع يديك وتسأل الله في وقت أزمة أو شدة، كما سألوه هؤلاء الثلاثة، فيفرج الله تبارك وتعالى عنك الغم، ويكشف عنك الكرب بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما دعاء غيره: ((
فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ))[الإسراء:56] وهم عباد أمثالنا.
فكل من عُبد من دون الله -من هؤلاء المسمين بالصالحين أوالأولياء أو السادة- لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.
فالتوسل المشروع المحمود يكون بالدعاء: بأن ندعوه بأسمائه الحسنى، أو بأعمال صالحة نعملها، ورأسها وأفضلها هو توحيد الله والإيمان به.
ثم كما قدمنا وفي هذا الحديث -مثلاً- ما يتعلق بحقوق الوالدين وبر الوالدين، وما يتعلق بالكف عن محارم الله مع القدرة عليها، وما يتعلق بإعطاء الناس حقوقهم والإحسان إليهم مع إمكان عدم ذلك.
فهذه وغيرها من الأعمال الصالحة هي التي يكون بها التوسل المشروع، وهي الوسيلة الصحيحة المحمودة، فهذا هو النوع الأول.